• نص حديث السيد عمار الحكيم في الأمسية الرمضانية الثامنة

    2011/ 08 /23 

    نص حديث السيد عمار الحكيم في الأمسية الرمضانية الثامنة

    نواصل الحديث في البحث الذي ابتدأناه في هذا الشهر الفضيل حيث كان الحديث في النظرية الإسلامية في الحقوق ورؤية الإسلام في الحقوق ، وذكرنا ان رسالة سيدنا ومولانا الإمام السجاد (ع) تشير الى ملامح هذه النظرية وآفاقها وتحدتنا عن الأول وهو الحق الأكبر حق الله سبحانه على العباد  ، ثم انتقلنا الى الحديث عن الحق الثاني وهو حق النفس على الإنسان ، وتحدثنا عن أهمية معرفة النفس كمقدمة لأداء حق النفس لان معرفة الحق متوقف على معرفة صاحب الحق فاذا كانت النفس هي صاحبة الحق فلابد ان نتعرف عليها ، وتحدثنا في الليلة الماضية عن ثواب معرفة النفس  وقلنا ان معرفة النفس هي مقدمة لمعرفة الله تعالى وشرحنا السبب في هذا الارتباط وهذه العلاقة بين معرفة النفس ومعرفة الله ، وذكرنا ان معرفة النفس هي المدخل المهم لاستبيان طريق الهداية والكمال الانساني .
     

    معرفة النفس ..وقاية من الضلال

    اليوم نتحدث عن الفائدة الثانية  من فوائد معرفة النفس وهي الوقاية من الضلال والانحراف ، اذا أردت عدم الانحراف وعدم السقوط في الهاوية فعليك بمعرفة النفس ، حينما تتعرف على نفسك  وعلى مقدارك ومنزلتك وعلى الكرامة التي خصها الله تعالى بك حينذاك تجد نفسك أعظم وأكبر وأشرف من أن تنزلق الى الهاوية وتقع في الذنوب والمعاصي ، لاحظوا الرواية عن علي (ع) " من عرف شرف معناه " من تعرف على حقيقته ونفسه وشرف وكرامة هذه الحقيقة " صانه عن دناءة شهوته " مثل هذا الإنسان لا يقع في الشهوات الدنيئة ، ترى هذه الخسة والمعاصي والدناءة لا تليق بقيمة الإنسان  لان الله تعالى أراد الإنسان أن يكون كريما شريفا وعزيزا لا يقبل لنفسه ان ينزل الى أقل من ذلك ، " و عن زور مناه ، المنى والأماني الباطلة والطويلة وغير الواقعية ، الأماني التي تبعد الإنسان وتجعل له اهداف أخرى غير هدفه في الكمال ، من حق الإنسان ان يعيش وان يرتزق وان يكون له طموح في هذه الدنيا ولكن لا تجعل لنفسك أماني وأهداف تبعده عن طريق الطاعة والعبادة وعن طريق الكمال لله تعالى .
     

    العلم في أربع ..

     في الكافي ج1 ص51 عن الإمام الصادق (ع) " وجدت علم الناس كله في أربع " الامام الصادق بعلمه بعلم المعصوم يقول العلم يقسم الى أربع ، " أولها أن تعرف ربك " معرفة الله فيها الخير والبركة والهداية والسلوك المستقيم ، " والثاني أن تعرف ما صنع بك " أن تكون لك معرفة بصنع الله بك بعنايته بك في بدنك وجسمك والأسرار العظيمة لهذا الوجود المركب المعقد الدقيق العميق ، وكذلك في بعدك الروحي والمعنوي في مقدرتك في ان تسير وتتكامل ، وهذا أيضا نوع ثاني من العلم علم الإنسان بما صنع الله فيه في بعده المادي والمعنوي ، " والثالث أن تعرف ما أراد منك " ماذا يريد الله منك من واجبات والتزامات ، من محرمات عليك أن تنتهي عنها  وتبتعد عنها وتتجنبها حينما تعرف ماذا أراد الله منك تستطيع أن تلتزم بهذه الإرادة ، " والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك " العلم الرابع ان تعرف أين هي الخطوط الحمراء وهذه سنة من سنن الحياة إذا أردت النجاح والتألق في أي مكان وفي أي قضية عليك أن تعرف ما هي الحدود وما هي الخطوط الحمراء وأين هي الممنوعات والمحظورات في هذه العملية ، في كل مرافق الحياة هناك ضوابط وحدود وإذا تجاوزت هذه الحدود تكون قد وقعت في المحظور .
     

    اهتمام القرآن بمعرفة النفس ..

    وعلى هذه الخلفية يتبين ان معرفة النفس قضية في غاية الأهمية وقد أولى القرآن الكريم بهذه المسألة اهتمام عظيما ، نجد ان 65 آية في القرآن الكريم تحدثت عن الإنسان واستخدمت مفردة الإنسان ، طبعا هناك حديث عن الإنسان ولكن في مفردات أخرى مثل قوله سبحانه يا بني آدم ويا أيها الناس وغيرها فستكون مئات من الآيات  ، وهذا ما يكشف عن مدى اهتمام القرآن بالإنسان ومعرفة واقعه وجذوره وآفاقه ونشأته الى غير ذلك من التفاصيل التي تعرضت لها هذه الآيات الشريفة . هناك 64 آية من مجموع 65 آية ذكرت الإنسان مع الألف واللام ن الإنسان ، وهناك آية واحدة لم ترد الألف واللام ولكن وضعت مفردة كل ، كل إنسان لتأخذ هذا البعد الشامل ، وفي هذا المورد  الذي لم يأتي بالألف واللام جاء في سورة الإسراء آية 13 " وكل إنسان ألزمنه طائره في عنقه " طائره أي عمله ، العمل الذي لا ينفك عنه ، كل إنسان استخدمت مفردة العموم في هذه الآية ، " ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " منشور أي غير مطوي مفتوح ، من أهم موارد الإحراج الذي يقع فيه الإنسان هو ان كل أعماله يراها الآخرون ، في حياة كل أحد من الناس هناك أسرار شخصية فما بالك إذا وقع البعض في المعصية والذنب في العدوان ، أفكار  معينة لدى كل واحد منا فيها اعتداء على الآخرين وهذه كلها لو تكشفت وتتبين " لو تكاشفتم لما تدافنتم " لو تنكشف حقائق بعضكم للبعض الآخر لكان أن لو أحد منكم يموت قلا يقدم الآخر على دفنه ، حينما تظهر وتنكشف هذه الأسرار لكانت المشكلة كبيرة وعويصة  ، في يوم القيامة "كتابا يلقاه منشورا "  كل الاعتبارات الاجتماعية وغيرها تزول في يوم القيامة ويخضع جميع البشر للحساب .

    هذه الرؤية تغير قناعات الإنسان وتدفعه الى سلوك لينسجم مع مثل هذه المسائل ، الإنسان دائما أمام عدسات التلفاز يكون تعامله مختلف عما هو بعيدا عن ألأنظار في الملبس والسلوك ، يراعي هذا الاعتبار ، أن يعرف الإنسان ان كل  أعماله ستكون منشورة ومعروفة ومفضوحة للآخرين يدعوه الى مزيد من الدقة والحذر في تعاملاته .

    نأخذ نماذج من الآيات الشريفة التي تدلل على كيفية تركيز القرآن على الإنسان وحقيقته وجذوره وتكوينه .
     

    جميع ملكات الإنسان من الله ..

    في سورة مريم آية 67 "  أو لا يذكر الإنسان انا خلقناه من قبل ولم يك شيئا " يا إنسان لماذا انت متكبر على الناس ومتكبر على رب العالمين وأصبت بالاستعلاء ، من أنت ، أين كنت ، من خلقك وسويك ، ويقول الله تعالى للإنسان نحن خلقناك وعملنا منك رجلا ، الشعور بأنه لم يكن شيئا مذكورا وأن الله و الذي أوجد وخلقه ، وكل ملكات الإنسان من الجمال وحسن الحديث والفكر والوجاهة والاعتبار والغنى هي من الله تعالى ، كل ما لدينا والتي نتفاخر بها بعضنا على بعض هي من الله . في سورة الحجر آية 26 " ولقد خلقنا الإنسان من صلصال " الصلصال هو الطين اليابس " من حمأ مسنون " هذا الطين اليابس معمول من طين آسن ، في إشارة لنطفة الإنسان ، هذه هي حقيقة وجود الإنسان ، في رواية " أوله جيفة " في إشارة للسائل المنوي " وآخره جيفة " بمجرد أن يموت يذهبوا به إلى القبر حتى لا تخرج منه رائحة غير طيبة ، " وما بينهما يحمل جيفة " إذا أصابه داء يمنعه من قضاء الحاجة . في سورة العلق آية 1 وما بعدها " اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق " العلق هو كتلة الدم المتجمد وهي تعلق في الرحم لتصبح البداية لتكوين ونشأة الإنسان ، على الإنسان أن لا ينسى أصل تكوينه ونشأته وهي العلق ، اليوم لتكن من تكون في أي موقع وأي امتيازات وظروف وإمكانات يجب أن لا تنسى ان أصلك علق ، كم كريّة دم استقرت في رحم أصبحت أنت الإنسان ، لاحظ كم تعطي رؤية وبصيرة وكم تجعل الإنسان يشعر بالخضوع والخشوع والذلة أمام الله تعالى حينما يتذكر أصله وحينما يتعرف على خصوصياته ، في سورة المؤمنون آية 12 وما بعدها وهي تشير الى المراحل التي يمر بها الإنسان في عملية الخلق " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " خلقنا الإنسان من طين جامد " ثم جعلناه نطفة " هذا الطين الجامد يتحول الى نطفة منوية فيها مقومات الحياة والتحول الى الوجود " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " وهذا السائل المنوي نضعه في الرحم بطريقة تفاعلات غاية في الدقة وفي مكان آمن حتى يتحول إلى موجود والى كائن بشري " ثم خلقنا النطفة علقة " هذه النطفة البسيطة تتحول إلى علقة وهي كما قلنا الكتلة من الدم المتجمد " فجعلنا العلقة مضغة " هذا الدم المتجمد يتحول إلى دم غليظ ، " فخلقنا المضغة عظاما " الدم الغليظ يتحول الى عظام " فكسونا العظام لحما " ثم يأتي اللحم ليكسو هذه  العظام " ثم انشأ ناه خلقا آخر " ثم يتحول من هذه الحالة إلى حالة جديدة يكون بمثابة الجنين وتبدأ ملامح الإنسان تظهر فيه وتنمو شيئا فشيئا وهو في رحم أمه ، "فتبارك الله أحسن الخالقين " ، انظر الى عظمة الله كيف بهذه التحولات من خطوة الى أخرى الى أخرى يتحول الإنسان من ذلك السائل المنوي الى أن تكون إنسانا حسن الخلقة ، نتمنى ان نكون حسن الصورة وحسن السلوك والأداء .

    في سورة التين آية 1 وما بعدها " والتين والزيتون " وهذه فواكه يقسم الله بها فهي ذات فوائد عظيمة ، و" وطور سينين " الله يقسم بذلك الجبل الذي تجلى به لموسى (ع) ، وهذا البلد الأمين " مكة المكرمة البلد الآمن والبلد الذي يحمل أمانة الوحي ، لماذا كل هذا القسم ، الله يقسم بالتين والزيتون والطور سينين بمكة البلد الأمين " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " الله يقسم بكل هذه الأمور بأنه خلق الإنسان على أفضل حال وأكمل صورة وأحسن شكل في بعده المادي في شكله وفي بعده المعنوي بروحه بكماله  وفي قدرته على التأدب ليكون أفضل من الملائكة  كما أشرنا في الليلة الماضية ، وهذا لطف من الله وهذه كرامة لهذا الإنسان ان يكون بهذه الرفعة ، " ثم رددناه أسفل سافلين " ولكن هذا الإنسان الذي يتألق في صورته وشكله وبدنه وفي روحه ونفسه فانه معرّض للانهيارات والتراجع لان يكون أسفل السافلين وليكون أحط المنحطين وأسوأ من البهيمة ، هكذا يمكن أن يقع حينما يبتعد عن السياقات الصحيحة ، " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ، الإيمان والعمل الصالح ، الانسجام مع الفطرة والحياة والانسجام مع الدور الذي أراده الله تعالى لهذا الإنسان ، إذا آمن وعمل الصالحات سيكون أفضل من الملائكة ، ولكن إذا تجاوز كل هذه النعم  حينذاك يمكن ان يكون أسفل السافلين وأحط المنحطين ، " فلهم أجر غير ممنون " غير منقطع أجرهم دائم .

    في سورة الإنسان آية 1 وما بعدها " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " سؤال ولكنه ليس للاستفهام ، انه سؤال تقريري ، إنسان لم يكن شيء وجئت به وربيته وعلمته  وشغّلته وأصبح مقامه كبير ، والآن يأتي هذا الإنسان ليتنكر هذه الحقائق ، " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " هل كان الإنسان في وقت سابق لم يكن شيئا مذكورا ، والجواب نعم ، عندما يسأل كم عمرك يقول مثلا 30 سنة ولكن قبل الثلاثين أين كنت وهكذا , بدأت من السائل المنوي نطفة ثم كبرت أيها الإنسان " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه "أمشاج يعني الخليط ، حينما يختلط السائل المنوي للذكر مع الأنثى تكون بداية الإنسان ثم أصبح على ما هو عليه الآن ،" فجعلناه سميعا بصيرا " تطورت وتحولت في هذه المراحل المتعددة الى أن أصبحت إنسانا تسمع وترى وأصبح لديك إدراك وشعور ومنزلة وأصبح لديك حضور وتقدير من الناس ، أصبحتً موجودا متكاملا متطورا " انا هديناه السبيل " نحن أعطيناك المدركات الحسية والإرادة الحرة حتى تختار وتقرر بأي اتجاه تذهب ، انا هديناه السبيل اما شاكرا وإما كفورا " اما أن تختار طريق الهداية والطاعة أو طريق الشرك والضلال والعياذ بالله ، " انا أعتدنا للكفرين سلاسل وأغلالا وسعيرا " ما دمنا أعطيناك قدرة الاختيار فإذا اخترت طريق الضلال فإننا اعتدنا لك السلاسل  والقيود والسعير ، ان الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا " ولكن اذا اخترت طريق الصلاح والهداية والفلاح والنجاح والكمال فانك تعطى من الكؤوس التي فيها من الشراب الطيب ذو الرائحة الزكية التي تأنس بشربها ، عليك الاختيار وعليك تحمل التبعات المترتبة عليها .

    في سورة الإنسان آية 8 و9 "  ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منك جزاء ولا شكورا " الفخر الرازي في تفسيره الكبير ج30 ص244 ماذا يقول في تفسير هذه الآية ، يقول الواحد من أصحابنا يقول في كتاب البسيط انها نزلت هذه الآية بحق علي (ع) ، وصاحب الكشاف الزمخشري وهو من المدرسة الأخرى وليس من أتباع أهل البيت ، ذكر هذه القصة ، عن بن عباس (رض) ان الحسن والحسين (ع) مرضا فعادهما رسول الله (ص) بأناس معه فقالوا لعلي  يا ابا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة " وهي جارية عندهم " إن شفاهم الله تعالى يصوموا ثلاثة أيام فشفيا فا ستقرض علي من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال السلام عليكم أهل بيت محمد (ص) مسكين من مساكين المسلمين فأطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا الا الماء وأصبحوا صائمين ، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه ، وجاءهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك " ثلاثة ايام علي وفاطمة وفضة يفطرون على الماء ولا يأكلون شيء من الطعام  " فلما أصبحوا في اليوم الرابع أخذ علي بيد الحسن والحسين ودخلوا على رسول الله (ص)  فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالجراح من شدة الجوع ، "قال (ص) ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم "، أنجرح رسول الله وهو يرى علي وولديه الحسن والحسين وهم يتراجفون من شدة الجوع " فانطلق معهم " اصطحبهم الى بيت فاطمة " فرأى  فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرائيل فقال خذها يا محمد هنئك الله في أهل بيتك فأقرأها السورة "  وتلا هذه الآيات الشريفة فكانت هدية عظيمة من السماء من الله تعالى لرسول الله وشهادة بحق أهل البيت الذين قدموا كل هذا العطاء من اجل الله سبحانه وتعالى .

    اخبار ذات صلة