• نص كلمة السيد عمار الحكيم في المنتدى العالمي لثقافة السلام والذي اقامته مؤسسة البابطين الثقافية بتاريخ 13-6-2019

    2019/ 06 /15 

    نص كلمة السيد عمار الحكيم في المنتدى العالمي لثقافة السلام والذي اقامته مؤسسة البابطين الثقافية بتاريخ 13-6-2019

    بسم الله الرحمن الرحيم

    اصحاب السيادة والمعالي والسعادة ...

    السيدات والسادة ....

    أحييكم اجمل تحية وأشكر لمؤسسة البابطين هذا الجهد الرائع والخطوة الرائدة.

    يشغل التراث الثقافي عند الشعوب مكانة بارزة ومهمة في مسيرة حياتها بشكل عام وتاريخها بشكل خاص، فهو شكل من أشكال الهوية الوطنية التي تجمع شعباً ما تحت مظلتها الإنسانية المشتركة قبل كل شيء، وهو زيادةً على ذلك شكلٌ من أشكال التواصل ما بين ماضي هذه الشعوب وحاضرها، وهو انعكاس لمسيرتها التاريخية والحضارية، ولذا فإن مهمة الحفاظ عليه تعني الحفاظ على هذه الهوية واستذكار الماضي، واستدعائه بوصفه وثيقةً تاريخيةً ينبني عليها الحاضر، وهو أداة من ادوات تشكيله، اذْ كيف لحاضر أن ينبت من دون تواصلٍ مع الماضي ؟  

    لا عبر الإتكاء عليه وتمجيده، بل انطلاقاً منه وتأسيساً عليه.

     

    • ويكتسي التراث الثقافي الإنساني بشقيه المادي (ونعني به الآثار والمتاحف والمباني والشواهد التاريخية) واللامادي (ونعني به العادات والتقاليد والحرف التقليدية والمهرجانات الفلكلورية والثقافية)، يكتسي أهميةً كبيرةً، فهو لغةٌ كونيةٌ ورسالةُ سلام وطريقة لحوار الثقافات والتعرف على طريقة عيش الآخر، وغيرها مما يَحْسُنُ القول عنه وتسميته ب(التراث الثقافي الإنساني).

    ولذا نجدُ لزاماً علينا أن نعمل جاهدين للحفاظ عليه إذا ما أردنا ان نوصل رسائل السلام، ونؤكد عدم الانغلاق على الذات، وعدم إقصاء الآخر ونبذه، ولاسيما ونحن نشهد محاولاتٍ متكررةً لتدمير هذا التراث ومحوه أو طمس معالمه، لما يشهده العالم من حروب ونزاعات وتفكير منغلق وأفق ضيقٍ في النظرة اليه والتفكير بإزائه، فضلاً عن ممارسات حركات التشدد والتطرف سلوكاً سلبياً ينزع الى محو بعض أشكال هذا التراث الثقافي الانساني سواءٌ أكانَ مادياً أم غير ماديٍ، وليس أدلَّ على ذلك من تدمير تمثالي (بوذا) في افغانستان على أيدي حركة طالبان، وبذلك محيت صفحةٌ وسفرٌ إنساني مشترك لا يمثل البوذية أو البوذيين فحسب بل مساحةً من العالم بأسره، بوصفه مشتركاً إنسانياً قبل كل شيء، واذا ما زدنا على ذلك التفجيرات التي طالت ما يزيد على 100 -150 موقعاً من آثار الموصل الحدباء في العراق ومحوها على أيدي داعش الارهابي، عدا ما طال المتاحف العراقية من نهب وسلب عَقِبَ دخول القوات الامريكية الى بغداد عام ٢٠٠٣ ، فضلاً عن تجفيف أهوار جنوب العراق بحجة إيوائها المعارضة في تسعينيات القرن الماضي، وتفجير مرقد نبي الله يونس في الموصل، ومرقد الأمامين العسكريين في سامراء، وقتل المصلين في كنيسة سيدة النجاة في بغداد، وعشرات التفجيرات الانتحارية التي استهدفت المساجد والحسينيات والكنائس والمشاركين في الشعائر الحسينية في كربلاء ومختلف المحافظات العراقية ، وهذه أمثلة معروفة على سبيل المثال لا الحصر،

    وغيرها كثيرٌ مما لايسع المجال لحصر جميعه، وهذا مايدعونا الى العمل سوية من اجل الحفاظ على هذا التراث الثقافي الانساني .

    بيد أنَّ ذلك لا يتحقق الا عبر خطوات جدية للحفاظ عليه، لا لأهميته فحسب بل بوصفه جزءا من هويتنا الانسانية قبل كل شيء.

    •• ويمكن أن نوجز الخطوات التي نأمل أن تكون دليل عمل للحفاظ على التراث الإنساني، على النحو الآتي : 

    اولاً : العمل على الحد من أثر النزاعات والحروب لما يتركه ذلك من أثر كبير في تدمير التراث الثقافي والإنساني، واشاعة الوعي بأهميته كمعبرٍ حقيقي عن الرغبة الجدية في إشاعة ثقافة السلام.

    ثانياً : العمل الممنهج للحفاظ على التراث الثقافي الانساني بوصفه لغةً كونيةً ووجهاً من وجوه حوار الحضارات، يمكن من خلاله تجسير العلاقة ما بين الشعوب وإرثها الحضاري. 

    ثالثاً : التأكيد على التراث الثقافي بوصفه وجهاً من وجوه تأصيل الهوية الوطنية، وهو رابط لا يقل شأناً عن الروابط الأخرى كاللغة أوالدين أو المعتقد وغيرها، مما يمثل الهوية الوطنية للشعوب .

    رابعاً : السعي نحو تفعيل الدور الذي يمكن ان يؤديه التراث الثقافي في صناعة السلام وتقارب الشعوب، كأقامة المهرجانات الفلكلورية، وأنساق الثقافة  الشفاهية وغيرها، وكل ما يمكن أن يستقطب شعوب الارض مجتمعةً بودٍ وسلام.

    خامساً : تضمين وصياغة الوعي الوطني ومؤشراته في المناهج التربوية المدرسية للحفاظ على التراث الثقافي واشاعة ثقافة السلام، إذْ لا يمكن ان نحقق النقاط التي ذكرناها آنفاً من دون أرضية تربوية وفكرية وتوعوية تُنَشَّأُ عليها الأجيال، ولا يتم ذلك إلا عن طريق المناهج التربوية الموائمة، وتهيئة الأجيال فكرياً وتربوياً لهذا التوجه .

    سادساً : احتواء التراث الثقافي للشعوب، وقبول الآخر، ونبذ الإقصاء والنظرة الدونية لتاريخ هذه الشعوب أو حضاراتها وتراثها، إذْ مهما كان هذا التراث، ومهما اختلفنا معه أم إتفقنا، لا ينبغي الحط من شأنه، لكونهِ صورةً من هويتها ووجهاً من تمثلات تراثها .

    سابعاً : التمكين المعرفي للشباب، لتأصيل حالة التوجه الى التراث الثقافي والحفاظ عليه والوعي بذلك، ومواجهة الفقر المعرفي بأهمية التراث الإنساني، وجعله وسيلةً للتقارب بين الشعوب، وتوظيف ذلك لتقريب وجهات النظر فيما بينها، عن طريق توظيف النظم المعلوماتية ومواقع التواصل الاجتماعي للإنْباء عن أهمية هذا التراث وكيفية المحافظة عليه وبسط ثقافة السلام.

    ثامناً : تعاضد المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والأفراد في الحفاظ على التراث الثقافي.

    تاسعاً : من المهم جداً العمل على جمع المشترك من التراث الثقافي الإنساني

    ونعني المتشابه منه كالملاحم أو السير أو المهرجانات وغيرها من التراث الثقافي المشترك، وجعله مناسبةً عالميةً للاحتفال والاحتفاء، وهو أمرٌ يسهم في التقارب الفعلي ما بين شعوب العالم.

    عاشراً : نتطلع الى تعاون المنظمات الدولية والمحلية لأنشاء مؤسسة تعنى بالتراث الثقافي الوطني العراقي بوصفه جزءً من التاريخ الأنساني المشرف . وهذه المؤسسة لا تخلق الامل لقطاع التراث العراقي فحسب بل تعمل كجسر ثقافي بين العراق وجيرانه ومحيطه الاقليمي والمجتمع الدولي وتسهل دعم الجامعات والباحثين العراقيين وتشجع على انشاء شواخص عمرانية مقتبسة من مشاهد أثرية وتراثية عراقية في مختلف ارجاء العالم وتوفر بعثات وزمالات تتعلق بحماية التراث العراقي .

    ايها السيدات والسادة ...

    إذا كانت هذه الخطوات توصف بأنها خطوات عملية للنشر والحفاظ على التراث ومقاومة المحو والتدمير،

     والتأسيس لثقافة الوعي بالتراث الثقافي والإنساني عموماً والعراقي بشكل خاص، فإننا بحاجة ماسة للحفاظ عليه عبر منظومات تؤمن ذلك وتعمل عليه، وتتبنى الدعوة الى عدم المساس به، لا لكونه يمثل هويةَ شعبٍ بعينه – وإن كان كذلك – بل لأنه في الوقت نفسه يمثل مشتركاً إنسانياً قبل كل شيء لا سيما وانا هنا في مدينة تبنت فيه منظمة اليونسكو عام 1954 معاهدة لاهاي الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية اثناء الحرب وبروتوكولاتها الاولى والثانية حيث أوصت باتخاذ كافة التدابير الدولية والوطنية لحماية المواقع ألاثرية والممتلكات الثقافية للدول باعتبارها تراثاً ثقافياً أنسانياً، وأن لا نكتفي بتوفير الحماية للتراث، بل علينا أن نسعى جاهدين مخلصين الى نبذ كل أشكال القرصنة والمتاجرة والطرق غير الشرعية للاستحواذ على كلٍ أو جزءٍ من التراث الثقافي والحضاري لأي شعب أو أمة .

    •• وإذْ نكتفي بهذا القدر من الخطوات، فإن علينا أن نتذكر بإنه لا يمكن لأي من هذه النقاط ان تتحقق مالم تتوافر الرغبة المخلصة والجادة في العمل على تحقيقها وجعلها دليل عمل، وخارطةً تقود الى جعلها واقعاً ملموساً من أجل الحفاظ على التراث الثقافي بوصفه شكلاً من أشكال المشترك الإنساني قبل أي شيء آخر، ورسالةَ سلام ولغة كونيَّةً مشتركة.

    وختاماً ..

    فإنَّ ثقافة السلام لاتقتصر على دينٍ او معتقدٍ او ايديولوجيا معينة ، بل هي رتبة انسانية .. وقد يموت بعضٌ او كثيرٌ من دون ان يدركوا تلك الرتبة .. فلنعمل لوصول الجميع إليها .. عبر المحافظة على تراثنا الثقافي الانساني المشترك بوصفه رسالة سلام.

    اخبار ذات صلة