• كلمة السيد الحكيم في مؤتمر الآفاق المستقبلية لأتباع أهل البيت ( عليهم السلام )  4/2/2023 م - 1444 هـ

    2023/ 02 /04 

    كلمة السيد الحكيم في مؤتمر الآفاق المستقبلية لأتباع أهل البيت ( عليهم السلام ) 4/2/2023 م - 1444 هـ

    (الآفاق المستقبلية لأتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين

    أصحاب السماحة والفضيلة ..

    السادة والسيدات الكرام ..

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    -من دواعي السرور أن تجتمع هذه النخبة الطيبة من أتباع أهل البيت (عليهم السلام ) من جميع أنحاء المعمورة ، هنا في العراق في ظل التحول الكبير الذي شهده في العقدين الأخيرين ، وبما يمثله من قلب الجغرافيا الشيعية وفي رحاب مولد أمير المؤمنين ويعسوب الدين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، لمناقشة أهم المواضيع التي تخص أبناء هذه الجماعة الصالحة الأصيلة ومراجعتها بشكل مستفيض ونافع ومسؤول.

    -إن نواة جماعة أهل البيت (عليهم السلام) من شيعتهم و أتباعهم و محبيهم قد تأسست وانبثقت في حياة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من ثلة مؤمنة وموالية ومخلصة ، امتدت وترعرعت واتسعت لتمثل اليوم أحد أكبر المسارات والاتجاهات الأصيلة الفاعلة في أوساط الأمة الإسلامية الغراء ، عدداً و وعياً وحضوراً والتزاما.

    -وإن تأسيس هذه الجماعة الصالحة في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى يديه الشريفتين فيها دلالات مهمة يجب التدقيق فيها و التأمل في مآلاتها ، فقد كان يحرص خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) وبإسناد مباشر من السماء على إنجاز المهمة السماوية واكمال المسيرة على أتم وجه من خلال تعيين الوصاية الأمينة على رسالته وشريعته ومنهاجه لايجاد ضمانات كافية لاستمرار الدين والرسالة الخاتمة ، امتداداً طبيعياً وحقيقياً بشكل منفصل عن الرسالات السابقة ، لعدم إمكانية ظهور رسالة جديدة بحكم خاتمية الرسالة ونبيها الخاتم ، وتكريس هذا المضمون وسط الأمة من خلال ثلة واعية ومدركة لخطورة هذا الأمر وأهميته ، لتحمل المسؤولية والالتفاف حول تلك الوصاية والتزامها واتّباعها والاستعداد لبذل التضحيات الجسام للغايات والأغراض المرسومة لها .

    -وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في سيرة و مسيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا أكثر الناس حرصاً على الإسلام ومبادئه وتراثه وشريعته وعلى الأمة الاسلامية بكافة صنوفها ولوازم وحدتها وتماسكها طوال تاريخها الممتد .

    مع أن المعصومين (عليهم السلام) عاشوا ظروفاً متفاوتةً جداً ، وتعرضوا لضغوط هائلة لم ينهاروا أمامها ، وامتلكوا فرصاً كبرى ولم يتبدل مسارهم الراسخ ،وحافظوا على الأصالة والقداسة على مستوى البناء الداخلي، والمرونة العالية في حفظ العلاقة الإيجابية مع الآخرين.

    -إن فلسفة التشيع قائمة على الاتباع الحسن لهذه المدرسة النبوية العريقة ولمنهج العترة الطاهرة والسلالة العلوية الشريفة التي تتلخص في(صناعة النموذج الإسلامي الصالح في الأمة) 

    وقد زخرت واستفاضت روايات أهل البيت(عليهم السلام) لدى وصف الفرد الشيعي والجماعة التي تحمل عنوان (الشيعة) والقائمة في ذلك تطول ..

    فعنهم (عليهم السلام) و بمضامين متشابهة ، يرد الآتي :

    -(شيعتنا هم العارفون بالله، العاملون بأمر الله، أهل الفضائل، الناطقون بالصواب ..)

    -(اتّقوا الله، وكونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، جرّوا إلينا كلّ مودّة، وادفعوا عنّا كلّ قبيح).

    -(ليس من شيعتنا مَن يكون في مصر ، يكون فيه آلاف ، ويكون في المصر أورع منه).

    -(يا معشر الشيعة، يا شيعة آل محمّد، كونوا النمرقة الوسطى، يرجع اليكم الغالي، ويلحق بكم التالي).

    (النمرقة الوسطى أي المتمسكون بالصراط المستقيم الخالي عن الإفراط والتفريط وعن الغلو والتقصير)

    -إن هذه الصفات و غيرها، إن دلت على شيء فإنما تدل على ثلاثة أمور هامة :

    -أولا :ضرورة التمسك بالإسلام الأصيل وامتداداته الطبيعية.

    -ثانيا :ضرورة بناء الجماعة الصالحة والقدوة الحسنة وسط الأمة.

    ثالثا: ضرورة أن تكون هذه الجماعة (أمة وسطى) توحد صفوف الأمة ولا تفرقها ، وتندمج معها ولا تعتزلها ، وتشيع الرحمة والاعتدال والمحبة في أوساطها وفي عموم العالم بعيداً عن الكراهية والتعصب و التطرف والغلو والانغلاق.

    -من هنا كان لزاما على أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في كل زمان ومكان أن يحافظوا على وجودهم وعقيدتهم وطريقتهم الوسطى في الخطاب والسلوك وفي الحراك العقلاني والمنطقي والعلمي المقبول.

    إن بقاء الواقع الشيعي من دون مشروع متوازن بين الأصالة المبدئية والمرونة الواقعية ، سيؤدي إلى انحرافات خطيرة تفضي الى انقسامات حادة في الواقع الشيعي بسبب انضواء مساحات كبيرة من الجمهور الشيعي تحت لافتات الأصالة والشعارات المبدئية ، وانضواء أجزاء أخرى تحت لافتات الحداثة غير الملتزمة التي تطالب بتغييرات جذرية في مبادئ الإسلام العقيدية والتشريعية والقيمية ، وسيقتات كل من الطرفين المتضادين على الأخطاء التي يقع فيها الآخر ويتخذها مبرراً للإمعان في التطرف وتعميق الانشقاق في الواقع المجتمعي الشيعي ، ولايخفى أن المحافظة على الوحدة العامة للصف الشيعي من أهم أسباب قوة الشيعة ، وفي مقدمة ما أكد عليه أهل البيت (عليهم السلام).

    وما هذا المؤتمر إلا نافذة من نوافذ هذا التطلع ، لمراجعة هذه التجربة ومحاولة ايجاد مخرجات معرفية تمكنهم من التكيف مع متطلبات العصر ، سيما أننا نمر بمرحلة دقيقة تحمل سمات عديدة يجب الانتباه لها ، وأبرزها الآتي:

    أولا : انتقال جماعة أهل البيت (عليهم السلام) وخاصة الشيعة الإثنى عشرية من كونهم أقلية عددية وجغرافية تاريخيا الى مساحات كبيرة ونافذة تنتشر في جميع أنحاء المعمورة في عصرنا الراهن ، مما يتطلب اعادة تنظيم الجهود للتعريف بهذا الوجود وأهميته ومعالمه و مكامن فاعليته بشكل يناسب دوره وأهدافه.

    ثانيا : إن جماعة أهل البيت (عليهم السلام) كانت محصورة في معالمها من خلال الحوزات العلمية العريقة والمرجعية الدينية المكرمة بصورة أكبر وهي التي تحملت أعباء الحفاظ على الجماعة وتماسكها تاريخيا وعملت على إظهار معالم التجربة وخصائص الأتباع للمحيط والعالم وهو أمر يجب الحفاظ عليه كما كان ، الى جانب ذلك ظهرت في عصرنا الراهن فرص كبيرة ببروز طبقات عديدة من الشخصيات والنخب الشيعية المؤمنة في شتى المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي مما يتطلب تعاملا مختلفا مع المستجدات والمتغيرات.

    ثالثا: التطورات والمتغيرات العلمية والإعلامية والتكنولوجية جعلت من عالمنا قرية صغيرة يتطلع فيها الجميع لبعضهم البعض ويترقب الجميع خزينهم الفكري والثقافي والحضاري الذي بإمكانه أن يجعل من عالمنا أفضل وأكثر ترابطا وتفاهماً ، وهذا الأمر أتاح فرصاً هائلة للتعريف بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومبادئها وخزينها الثقافي والفكري والروحي للعالم بوصفهم شريكاً فاعلاً لا بوصفهم جماعة باطنية ومنعزلة ومشتتة.

    -رابعا :المتغيرات السياسية على مستوى الأنظمة والدساتير والقوانين الحديثة التي تحكم دول العالم على أساس المفاهيم الجديدة والحقوق والواجبات الجديدة أصبحت أكثر نضجا وتنظيما من ذي قبل ، مما يستدعي تجاوز السياقات التقليدية والافادة من عناصر المرونة الواقعية لتكييف التفاهم والمصالح المتبادلة وصولاً الى اندماج مستمر يحفظ المبادئ من ناحية والواقع المتعدد المكونات ومتطلباته في العيش المشترك واحترام الخصوصيات من ناحية أخرى ، عبر الالتزام بالمشروع الاجتهادي للمرجعية الدينية الذي يحفظ الأصالة والرصانة ويسمو على الجمود أو الانصهار في الآخر على حد سواء.

     وهذا الأمر يتيح لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) اظهار مخزونهم الفكري والقيمي اتجاه المفاهيم الوطنية وفي مقدمتها المواطنة وإدارة التنوع وبناء الدولة والالتزام بالقانون والحفاظ على حقوق الإنسان والبيئة ،وغيرها من المفاهيم والاسهام في ايجاد المعالجات للأزمات الفكرية الشائكة في المجتمع الإنساني.

    -إننا وانطلاقا من قرائتنا للحقائق المشار إليها آنفاً ، بدأنا بطرح و بلورة (مشروع شيعي عام) متاح لجميع أتباع أهل البيت (عليهم السلام) للمشاركة فيه وانضاجه تحت عنوان (الوطنية الشيعية) ، مستندين في ذلك الى تاريخ طويل من المواقف والأفكار والارشادات الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الاطهار (عليهم السلام) مروراً بحركة الفقهاء على طول التاريخ بعد الغيبة الكبرى ، وصولاً الى مدرسة النجف الأشرف بوصفها محوراً مركزياً وأصيلاً لهذا المشروع ، وطرحنا معالمه العامة ،ودعونا النخب والشخصيات الشيعية وفي المقدمة حضراتكم للمشاركة في انضاجه وبلورته .

    -إن الوطنية الشيعية التي نطرحها ، قائمة على ثلاث حقائق تتفرع منها الأمور الأخرى وهي:

    -أولا :إن أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من حيث العقيدة والشريعة والشعائر تمثلهم هوية واحدة متماسكة تتبع منهجا موحدا في حراكها المذهبي وإن تنوعت في أساليبها الشعائرية ومرجعياتها الدينية ولكنها تتبع ذات الإطار العام الذي تعتقد به وتتمسك بأطرافه وهو عابر للحدود والقيود .

    فعقيدة المسلم الشيعي في التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد ، والتزامه بالشريعة والشعائر لايمكن تحديدها بحدود جغرافية محددة ، فهو أمر يشترك فيه كل شيعي أياً كانت هويته الوطنية او ثقافته اللغوية أو عرقه.

    ثانيا : إن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) موحدون من حيث العقيدة ولكنهم موزعون على دول و أوطان قائمة و محكومة بعقود إجتماعية وسياسية خاصة بها ، بحسب هويتهم الوطنية ودولهم ومجتمعاتهم في خط تاريخي أصيل ودائم وهذا الأمر يتطلب منهم (الاندماج في مجتمعاتهم وترسيخ هويتهم الوطنية ، والالتزام بقوانينهم) وهذا ما دعت إليه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال وصايا الأئمة الأطهار (عليهم السلام) و ركز عليها الفقهاء وثبتتها المرجعية العليا بصورة واضحة في توصياتها وإرشاداتها الحكيمة .

    فالشيعي العراقي على سبيل المثال له خصوصيات وسمات وطنية ومجتمعية وقانونية وثقافية وعرفية مختلفة عن الشيعي الإيراني أو اللبناني أو السعودي أو الباكستاني أو الهندي أو الأفغاني أو أي من الدول العربية والإسلامية والعالمية الأخرى، وهذه الخصوصيات ليست مصطنعة بل إنها نابعة من عمق انتماء هذا الشيعي لوطنه ومجتمعه ودولته تاريخيا و عاطفيا و تعاقديا (كحقوق و واجبات) وهذا الأمر لا يحتمل أن يكون عابرا للحدود ، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون شيعيا عراقيا وفي ذات الوقت ينتمي لوطن آخر بسمات وخصائص مختلفة أو يطبق قوانين دولة أخرى أو يستورد ثقافة مختلفة لمجتمعه خلافا لرغبتهم .

    إن وطنية الشيعة حقيقية ، وانتماؤهم واقعي للوطن والمجتمع والدولة ، وليس كما يذهب إليه البعض بأن المواطنة لا مكان لها في الفكر الديني ،أو أن المواطنة مجرد ستار يتستر به الشيعي ليحصل على مكاسب وحقوق من دون أن تملي عليه واجبات والتزامات.

    لابد أن نتفادى أي تضاد بين اشتراطات الأنتماء العقيدي وبين الانتماء الى الوطن ، الذي يفرزه تداخل المشاعر والأنشطة والمواقف،أو التقاطعات السلبية المفروضة والمفتعلة التي حملت على المجتمع الشيعي.

    ونحن هنا بأزاء ثلاث حالات كلية :

    أ -أن يكون الشيعة أكثرية في بلد ما ، وهذا يتطلب اهتمامهم الكامل بحقوق جميع شركائهم والمكونات الأخرى في بلدهم ، وايجاد البيئة المتساوية للحقوق والواجبات.

    ب -أن يكون الشيعة أقلية في دولة ما ، وهنا يستدعي ايجاد البيئة الملائمة لاندماجهم مع شركائهم الآخرين والمشاركة في قضايا وطنهم مشاركة فعلية و واقعية ،بما ينسجم مع خصوصيتهم المذهبية.

    ج -أن يكونوا أقلية في بلدان غير إسلامية ، كما في الغرب وغيره ، وهنا يتطلب البحث عن كيفية اندماجهم الحقوقي والقانوني في تلك البلدان مع الحفاظ على خصوصياتهم وهويتهم والاعتراف بها من قبل الأغلبية في تلك البلدان.

    ثالثا: إن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في كل بلد موزعون على شاكلة أفراد ومنظمات ومؤسسات و مشارب و اتجاهات فكرية متنوعة.

    فهناك الشيعي الليبرالي والشيعي الإسلامي والشيعي الأكاديمي والشيعي المتحزب والآخر المستقل ،وهكذا تتنوع المشارب الفكرية والثقافية .

    وهذا الأمر يجدر دراسته كحق فردي لكل شيعي في وطنه .

    فالمحصلة هي : أن الشيعة موحدون على نطاق العقيدة ومنتشرون في أطر الدول والمجتمعات ، ومحترمون في التزاماتهم الفردية والفكرية والثقافية و السياسية .

    وهذا الأمر يجعل المسارات أكثر وضوحا فيما بينهم و أكثر تفهما و تقديرا من غيرهم ، ويزيل عنهم الشبهات الباطلة التي تشكك بهم وبانتمائاتهم و مواقفهم الوطنية .

    -إن ما نطرحه هي فكرة تتطلب انضاجاً وتنظيماً أكثر ولكن أساسها هو إيماننا بضرورة الافادة من عمق (الثقلين) والإجتهاد الفقهي الرصين الذي يجعل الانتقال من القوالب التقليدية الى الأطر العصرية ويتيح للجميع المرونة الأكبر في التحرك والخطاب والفاعلية ملتزماً بالهوية ، وحافظاً للتشيع الحقيقي وقادراً على توحيد المجتمع الشيعي ومصداقيته في التمسك بالمنهج الفقهي العريق الذي تمثله المرجعية الدينية الجامعة لشرائط التقليد. 

    فالجمود على حركة الماضي وظروفه ، والحياد تجاه الحاضر ، وعدم التخطيط للمستقبل كلها عوامل معرقلة لا تتناسب مع خزيننا الشيعي الفكري القادر على التجدد مع الحفاظ على الأصالة والعقيدة والخطوط العامة لجماعة أهل البيت (عليهم السلام) .

    -إنني أدعو الى اعادة قراءة تجربة النجف الأشرف و المرجعية الدينية العليا  بكل تفاصيلها وعطاءاتها الفكرية و الثقافية الثرية التي باتت مرصودة ومشهودة من قبل العالم .

    -هذه هي اللبنة الأساسية التي يمكن الانطلاق منها نحو محيطنا ونحو العالم بلغة عصرية مرنة ، مفهومة و مقبولة و محترمة من الجميع .

    -فأتباع أهل البيت (عليهم السلام) يحملون راية الرسالة المحمدية ومسؤولية اظهار معالم ومآثر وثمرات هذه المدرسة للعالم أجمع ، ليكونوا جزءا فاعلا و مشاركا و مؤثرا في حضارتنا الإنسانية الأوسع .

    اخبار ذات صلة