نص كلمة السيد الحكيم في المنتدى العالمي الثالث لثقافة السلام العادل القاهرة - جمهورية مصر العربية 2024 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين ..
السادة والسیدات الحضور..
السلام علیكم ورحمة ﷲ وبركاته..
یسعدني مشاركتكم في المنتدى العالمي الثالـث لثقافـة السلام من أرض الكنانة.. أرض العروبة والسلام.. جمھوریة مصر العربیة .. الدولة الشقیقة والعزیزة على قلوب العراقیین جميعاً..
آملین أن تـثمر مخرجات ھـذا المنتدى الرصین لمؤسـسة الراحل الكبير الشيخ عبد العزیـز سعود البابـطین الثقافیة.. ما فـیه خـیر شعوبنا في المنطقة والعالم.
هي فرصة ثمينة نستذكر فيها الشخصية العربية الفذة التي تركت بصمة مهمة في ميدان الثقافة والأدب العربي وشيدت منظومة واسعة من العلاقات العربية والإسلامية والدولية.
وكم نفتقد الأخ العزيز الشيخ المكرم عبد العزيز البابطين في هذا الجمع الكريم ولنا بوجود نجله النبيل الأستاذ سعود عبد العزيز البابطين سلوان بفقده راجين له التوفيق في مواصلة الطريق والحفاظ على الإرث الكبير الذي خلفه فقيدنا العزيز.
السلام ليس غياباً للحرب والنزاع فحسب ، بل هو حالة الأمان والاستقرار التي تبدأ من العلاقات الشخصية، والاجتماعية وتمتد إلى الآفاق الدولية الأوسع.
والسلام في أهم مصاديقه يعني الحفاظ على كرامة الإنسان، والعيش بسلام مع الآخرين، وتعزيز التفاهم والتعايش بين مختلف الثقافات والديانات.
إن الحدیث عن ثقافة السلام یتطلب أولاً استحضار الأركان الأساسیة وتفعيلها لتحقیق ھذا السلام..
فلا یمكن الحديث عن السلام من دون إرادة حقيقية تؤكد الحاجة للسلام ..
ولا یمكن تطبیق هذه الإرادة من دون قدرة فعلیة لصناعة هذا السلام..
وصناعة السلام ھي الأخرى .. لايمكنها انتاج سلام دائم من دون آلیاتٍ جدية لحفظ هذا السلام..
ھـذه الأركان الـثلاثـة لـتحقیق السـلام مـن(الـحاجـة الـفعلیة والـقدرة عـلى صـناعـة السـلام .. وآلـیات الحفاظ عليه وديمومته) .. لایـمكن اكـتمالـھا مـن دون عـملیة تـنمویـة لـبناء السـلام واسـتدامـته بـشكلٍ عـمليٍ وفـاعـل ومناسب، ... فالسلام الدائم ھو ما ترتضيه الأجیال القادمة لتكون الضامنة في إدامته وحفظه.
والسلام العادل يتضمن حماية حقوق الإنسان ، وضمان الحريات الأساسية للجميع.
وهو يشمل الحق في الحياة، والحرية ، والسعي نحو السعادة والعيش الكريم.
وباختصار، فالسلام العادل كما نراه ، هو أبعد وأوسع من غياب الصراعات؛ إنه يعكس حالة من العيش المتوازن المستقر الذي يقوم على أسس العدل، والإحسان، والتسامح، واحترام حقوق الإنسان.
نحن الیوم بأمـس الحاجة لتعزیـز مبادئ السلام وتطبیق أركانـه الفعلیة في منطقتنا وفي العالـم من خلال تعزیـز فرص التنمیة الشاملة وتحقیق أركانها .. فالسـلام ھـو مفتاح التنمیة الحقیقي لشعوبنا و دولـنا والعكس صحیح..
ولایـمكن فصل الـتنمیة عن السلام .. فهناك علاقـة متشابكة بین المفھومین.. فـإذا أردنا تنمیةً شاملةً في بناء الإنسان والمجتمع والأسرة والحكومات .. مروراً بجميع القطاعات الاقتصادیة والسیاسیة والبيئية ..
فلابد من إرساء السلام وتطبیقه أولاً .. والتنمیة تعكس مجموعةً متكاملةً من القیم الاجتماعیة والسیاسیة.. تتمثل مجتمعة في إقرار وترسيخ ثقافة السلام.
وإن الزیادة السكانیة التي یشھـدھـا العالـم الیوم ومنطقتنا العربیة والإسلامیة بالأخص.. تجعل من التنمیة مطلباً وجودياً أكثر منه مفھوماً وثقافةً..
كما أن التحديات الديموغرافية والبيئية هي عوامل لا يمكن تجاهلها، حيث إن النمو السكاني السريع، والهجرة، وندرة المياه، وتغيرات المناخ ، باتت أموراً جوهرية وأساسية تحتاج إلى معالجة عاجلة لضمان مستقبل السلام.
فـلا بـدیـل الـیوم غـیر الإسـراع فـي عجـلة الـتنمیة الـشامـلة ومـكافـحة الـعوائـق الـتي تـحول دون تـحقیق تـلك التنمیة المرجوة.
إن الشباب لايمثلون مستقبل أمتنا فحسب ، بل هم الحاضر الفاعل والمؤثر في بناء عالمٍ أكثر سلامًا وازدهارًا.
والشباب أكثر من يصلح لتعزيز جسور التواصل بين الثقافات والأديان والحضارات.من خلال التعليم والتبادل الثقافي، وأكثر من يمكنهم لعب دور محوري في تعزيز التفاهم والتعايش بين المجتمعات المختلفة.
إن الاستثمار في الشباب وتمكينهم يعني بناء أساس متين لعالم أكثر سلامًا وتناغمًا. دعونا نعمل معًا لتوفير الفرص والموارد التي يحتاجها شبابنا ليكونوا قادة السلام في اليوم والغد.
لاسـیادة ولاحریـة ولا اسـتقلال فـي الـقرار السياسي وفي الصناعة والزراعـة وسائر القطاعات في دولنا الـعربـیة والإسـلامـیة.. ما لـم تـكن ھـناك تنمیة شاملة وحقیقیة في مجتمعاتنا وبلداننا.
ومن الأمثلة البارزة على التنمية المستدامة في الوطن العربي هي "مشروع العاصمة الإدارية الجديدة" في مصر، الذي يعد مثالاً على الجهود الكبرى نحو تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز السلام وفق خطة محترفة لتخفيف الضغط عن القاهرة التي تعاني من الازدحام الشديد والتداعيات البيئية ، فجاءت رؤية تصميم المدينة بطريقة تضمن الكفاءة في استخدام الموارد، مثل إعادة استخدام المياه والطاقة الشمسية بنحو أمثل.
وهنالك عدد من المشاريع العربية ، تعتبر مثالاً ممتازاً في التنمية المستدامة منها :
- مشاريع الكويت في مجال الطاقة المتجددة والبنى التحتية كمشروع مدينة الحرير الذي يهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط وتحسين جودة الحياة للسكان.
- مشاريع قطر في أستضافة الفعاليات الرياضية الكبرى مدخلاً لتعزيز التنمية المستدامة.
- مشروع الديسي لنقل المياه في الأردن.
- ومشاريع طاقة الرياح والشمس في المغرب.
- ومدينة مصدر في الإمارات العربية المتحدة.
- ورؤية (2030) في المملكة العربية السعودية.
- وميناء الفاو الكبير وطريق التنمية في العراق.
وفي هذا السياق الحيوي نرى من الضروري أن تتسم العملیة التنمویة في بلداننا بالمبادئ الثلاثة الآتیة:
أولاً/ أن تـكون متجهة نـحو تـلبیة الاحتياجات غـیر الـمادیـة ، وأن لا تـقتصر عـلى المفھوم الـمادي .. فـالـفقر اليوم لایعني احتیاج الإنسان إلى الغذاء والدواء فقط .. بل الفقر الحقیقي ھو فقر المنظومة التعلیمیة والقیمیة والأخلاقـیة .. وأبرز مـا یھـدد شعوبنا ھي تلك الـثقافـات المنحرفة والدخیلة عـلى قـیمنا الـعربـیة والإسلامیة.
ثانیاً/ أن تنطلق التنمیة من داخـل الـمجتمع نفسه .. معتمدة عـلى موارده البشـریة والطبیعیة والثقافیة.. فأھل مكة أدرى بشعابھا.. ولانریـد غـطاءاتٍ ومبرراتٍ تـتیح للآخرین التدخل بشؤوننا بإسـم التنمیة ، لأغراض وأھداف فرعیة ودخیلة.
ثـالـثاً/ أن تـكون التنمیة مسـتندة إلـى تحولات بنیویـة في الاقـتصاد والمجتمع والبیئة الإقلیمیة والدولیة.. حتى تكون تنمیة جذریـة وشاملة وحقیقیة.. فمن الصعب أن تـنفرد دولـة ما بالـتنمیة وھـي ضمن محیط إقلیمي مضطرب غـیر مستقر.. ومن المستحیل أن نـتكلم عـن التنمیة تحت أزیـز الرصاص وطـبول الحرب وآثـارھـا المدمرة الفادحة.
وتحقيق ذلك یتطلب أولاً تـشخیص الكوابح التي تقف عائقاً دون الوصول إلى مـشارف التنمیة وتحقیقھا.. فالـضعف والـقصور في القطاع التعلیمي ، وھـشاشـة الـنظام الإداري والمصرفي وتصاعد حالات العنف المجتمعي وإهمال الاتـفاقـیات الـتطویـریـة والاسـتثماریـة بـین الـدول والمؤسسات .. وعدم الاستقرار في المنظومـة الإقـلیمیة سیاسیا وأمنیاً واقتصادیاً .. تعد من الكوابح الأساسیة التي تمنع استمرار عجلة التنمیة في بلداننا.
إننا فـي العراق عانـینا كثیراً مـن آثـار توقـف عجلة التنمیة.. وما زلنا نعاني بعض آثارھا بالرغـم مـن الخطوات الكبیرة التي تحققت طیلة العقدین الماضیین ، وما تحققق في حكومة الأخ السوداني بشكل خاص.
فالحـروب وسـنوات الـحصار .. ثم ثـقافـة التطرف والتكفیر والعنف .. كانـت عـوائـق أمـام نـھوض الـعراق .. والـیوم بحـمد ﷲ وتـوفـیقه وبـإرادة الـعراقـیین وقـواھـم السـیاسـیة الـوطـنیة ومرجعياتهم الرشيدة اسـتطعنا تـجاوز تـلك الـعوائـق وآثارھا المدمرة على الانسان والمجتمع إلى حد كبير.
فـعراق الـیوم یـختلف عـن أمـسه ومـاضـیه .. وھـو فـي طـریـقه نـحو الـریـادة فـي مـجالات حيوية واستراتيجية بإذنه تعالى.
لقد استطاع العراق أن یكسر شـوكة الإرھاب والتطرف .. واستطاع توحيد مكوناته في إدارة عملیة سیاسیة دیمقراطـیة ناجـحة.. فالدیـمقراطیة تـقع في صـمیم الـتنمیة.. ولايصح الحديث عـن تـنمیةٍ بـلا نـظامٍ دیمقراطي يقوم على التداول السلمي للسلطة.
كما اسـتطاع الـعراق أن یـعید جـزءاً كـبیراً من امكانیاتـه الذاتیة في المجال الاقـتصادي والأمن الغذائي والكثير مـن الاحتياجات الأسـاسـیة .. وھـو فـي طـریـقه لتحقيق قـفزات كـبیرة فـي مـجال الاسـتثمار والـتنمیة الـصناعـیة عبر توفیر البنى التحتیة المطلوبة لذلك..
وقـد نـجح الـعراق أیـضا فـي النأي بـنفسه من الدخول في اصطفافاتٍ إقـلیمیةٍ ودولـیةٍ من خلال اعـتماده سـیاسـة الحیاد الإیجابي دون المساس بقیم الأمة العربیة والإسلامیة وثوابتھا الدینیة والأخلاقیة الأصيلة.
لكننا الـیوم نـواجـه تحدیاً كبیراً.. وھـو أمـر تشـترك فـیه جـمیع دولـنا الـعربـیة والإسـلامـیة .. ھـو تھـدیـد أمـن منطقتنا وزعزعة السلام فیھا بعدما حققته من نجاحاتٍ كبیرةٍ في عودة المیاه إلى مجاریھا الطبیعیة.
الحضور الكريم ..
نحن اليوم مجتمعون لمناقشة واحدةٍ من أكثر القضايا إلحاحًا في عالمنا العربي في مواجهة تحديات السلام.
ففي قلب هذه التحديات، تحتدم النزاعات الداخلية والإقليمية. وقد شهدنا، للأسف، كيف يمكن للحروب الأهلية والصراعات الطائفية أن تدمر مجتمعاتنا من الداخل، وكيف تعمل النزاعات الإقليمية على إضعاف علاقاتنا مع جيراننا.
وما زال التطرف والإرهاب يواصلان تقويض جهودنا نحو السلام ، ولا يمكننا التغاضي عن الحاجة إلى مواجهة هذه التحديات بشكل جذري وشامل.
إن مـا یـتعرض له شـعبنا الفلسطيني فـي غـزة والضفة والمدن الفلسطينية الأخرى مـن إبـادة جـماعـیة تـحت مـبرراتٍ غـیر مـنطقیة مـن قـبل الـكیان الصھـیونـي وتـحت صـمت دولـي مـریب .. تـعد مـن أبـرز التحـدیـات الـتي تـواجـه إرسـاء ثـقافـة السـلام ودفع عجلة التنمیة في المنطقة.
نـقدر الـجھود الـكبیرة الـتي تـبذل مـن قـبل جمھوریـة مصر العربـیة ولاسيما مايقوم به الرئيس السيسي وما تسعى إليه الـعدیـد مـن دول الـمنطقة والـعراق بشكل خاص للوصول إلـى حـل جـذري لإیـقاف ھـذه الـمأسـاة الإنـسانـیة وإیـجاد حـل عـادل یحقق كرامة الفلسـطینیین وحقھم الطبیعي على أراضیھم المحتلة..
إذ لایـمكن أن نتخیل وجود تنمیة حــقیقیة.. ووجود سلام دائم بوجود أراض مــحتلة وحقوق مسلوبة .. وسیاسات تدميرية ومتھورة تؤثر على أمن شعوبنا و دولنا.
الـقضیة الفلسطینیة لیسـت شعاراً سـیاسـياً وإنما ھـي قـضیة تـمس كـرامـة المواطن العربي والمسـلم.. ولا یـمكن الـتغاضـي عـنھا أو تعویمھا بـأسـالـیب وجـھود بعيدة عن معنى الكرامة والإنسانية.
إنني أدعـو ومن خلال ھـذا الـمنتدى الدولي إلى اعتبار التنمیة المسـتدامـة والمسـتندة إلى سلام حـقیقي ودائـم فـي مـنطقتنا العربیة والإسلامـیة .. هي الـقضیة الأولـى لدى دولنا وحكوماتـھا ومجالـسھا التشریـعیة.. كلاً بحسب نظامه السیاسي وبيئته و أولوياته.
وأن نشهد خـطوات عـملیة ذات أولـویـة فـي نـتائـج الاجـتماعـات الـدوریـة لجامعة الدول العربية والـمنظمات الـعربـیة والإسـلامـیة.. لتـكون تـلك الـتنمیة ضـمن مشـروع الـقرارات الإقـلیمیة وقـوانـین الـتنفیذ المحـلیة في مسار تأمین مستقبل أجیالنا وحفظ مصالحھم وفرصھم في حیاة حرة كریمة.
إن الطريق نحو السلام ليس سهلاً، ولكنه ضروري. يتطلب منا جميعًا - حكومات، وبرلمانات ومؤسسات، وأفراداً - التزامًا جادًا وعملًا متواصلاً. ونحن على ثقة بجهودنا المشتركة، في السعي إلى تحقيق السلام المنشود في عالمنا العربي وفي العالم.
حمى ﷲ شعوبنا العربیة والإسلامیة من كل سوء ومكروه..
وحمى ﷲ شبابنا العربي والإسلامي من أنیاب الثقافات الدخیلة وظواهرها الأخلاقية المشؤومة..
إنه سمیع مجیب الدعوات ..
والسلام علیكم ورحمة ﷲ وبركاته.