نص كلمة السيد الحكيم في الدورة الخاصة بالتطرف الديني والإرهاب في أفريقيا وآسيا التي أقامتها منظمة الأديان الدولية في جنيف 2024
بسم ﷲ الرحمن الرحیم
السادة والسیدات.. السلام عليكم ..
وهذه تحية الإسـلام وھـو السـلام .. السـلام الـذي تـطمئن إلـیه نـفوس البشـر وتسـتقر عـنده الـھواجـس والـظنون..
فيكون الأمن والوئام بدلا من الخوف والقلق..
قال تعالى في محكم كتابه العزيز ..
بسم الله الرحمن الرحيم
"یَا أیَھَا الناسُ إنِا خَلَقْنَاكُم ِّ من ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لتِعَارَفوُا إنِ أكْرَمَكُمْ عِندَ َّﷲِ أتْقَاكُمْ إنِ ﷲَ عَلیِمٌ خَبِیرٌ"
أرجو أن تـثمر ھـذه الـندوة بـتوصـیات فـاعـلة لـمعالـجة أخـطر الـمظاھـر والآفـات الـفكریـة الـتي تھـدد حـیاة الإنـسان وآمـن الـشعوب.. كيف لا؟ وهو الـتطرف الـذي یـغذي الـكراھـیة والـتمییز بـین الإنـسان وأخـیه الإنسان..
هذا الـتمییز الذي نھـى عـنه إسـلامـنا الـحنیف.. وخـیر مـصداق لـذلـك كـلام الإمـام عـلي بـن أبـي طـالـب (ع) فـي رسـالـته لمالك الأشتر حين ولّاه مصر أبان سنوات حـكمه بقوله .. "وأشـعر قـلبك الـرحـمة لـلرعـیة، والـمحبة لـھم، والـلطف بـھم، ولا تـكونـن عـلیھم سـبعا ضـاریـا تـغتنم أكـلھم فـإنـھم صـنفان: إمـا أخ لـك فـي الـدیـن أو نـظیر لـك فـي الخـلق فـأعـطھم مـن عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن یعطیك ﷲ من عفوه وصفحه".
وحـتى الـذیـن یـختلفون مـعنا فـي الـدیـن والـعقیدة ، یـوصـینا الإسـلام في الـقران الـكریـم بـالـتودد إلـیھم وبـناء عـلاقـات الـتعایـش السـلمي مـعھم.. یـقول الله تـعالـى "لایَـنْھَاكُـمُ اللَّه عَـنِ الذِیـنَ لَـمْ یُـقَاتِـلوُكُـمْ فِـي الدیـنِ وَلَـمْ یُخْـرِجُـوكُـمْ مِنْ دِیَارِكُمْ أنْ تَبَروھُمْ وَتُقْسِطُوا إلِیْھِمْ إنِ الله یُحِب الْمُقْسِطِینَ".
إن الـتطرف والإرھـاب والـكراھـیة والـتمییز بـین الـشعوب.. مـفاھـیم منحـرفـة لا دیـن لـھا .. وھـي مـرتـبطة ارتـباطـاً وثـیقاً بـظروف وأدبيات بـیئة ثقافية واقـتصادیـة وسـیاسـیة محددة .. ومـن الخـطأ الجسـیم أن نـنظر إلـیھا بـمعزل عـن جذورھا الحقیقیة التي تتغذى على تلك الظروف أینما حلت في أي مكان من العالم.
الـتاریـخ يعج بـمآسـي الـتطرف والإرھـاب والـتمییز الـعنصري.. والأمـر لا یـقتصر عـلى مـنطقة جـغرافـیة فـي الـعالـم .. فقد عانت أوربا والامريكيتان عـقوداً طـویـلة مـن ویـلات الـتطرف والـتمییز الـعنصري عـلى حـساب اللون والجنس والعرق.. وما زالت تعاني من آثارھا الثقافیة والفكریة إلى یومنا ھذا.
لامـعالـجة للتطرف في العالم مـن دون تـشخیص الأسـباب الـتي تـغذيه .. وحـینما تتحدد الأسباب الحقیقیة سیتمكن العالم بتعاون مؤسساته المعنیة ، من المواجھة والمكافحة المنھجیة .. ومن الخـطر الـكبیر أن نـلحق الـتطرف بـدیـن مـعین.. أو نـحصره بجـماعـة أو جـھة مـعینة.. الأسـباب الـموضـوعـیة ھـي الـتي تخـلق الـفكر المنحـرف والـمتطرف.. والـجھات المسـتفیدة هي التي تـعمل عـلى إذكـاء تـلك الأفـكار وتؤججها فـي الوقت الذي تختاره وفقاً لمصالحھا وأغراضھا الخبیثة.
فھناك عدة أسباب تغذي التطرف في العالم، ومن أبرزها:
١- الـفقر والـبطالـة: حيث یـمثل الـفقر ونـقص الـفرص الاقـتصادیـة عـامـلاً أساسياً فـي دفـع الأفـراد نـحو الـتطرف لـلبحث عـن حـلول لـمشاكـلھم الاقـتصادیـة.. فـالـعوز الـمادي والحـرمـان الاقـتصادي یـدفـع الإنـسان نـحو الجـریـمة والـتطرف إن لم یكن مسلحاً بالوعي وانضباط النفس.
٢-الـظلم والـعنف الأسـري والـمجتمعي: إن ثـقافـة الـظلم والـعنف الأسـري والـمجتمعي وانـتھاكـات حـقوق الإنـسان تؤدي جميعها إلى تأجيج الغضب والإحباط وتشجیع الأفراد على التطرف والمیل نحو الكراھیة.
- الـصراعـات والـنزاعـات الإقـلیمیة: إن الـصراعـات والـنزاعـات المسـلحة تـؤدي إلـى نـشوء بـیئة مـواتـیة لانـتشار التطرف والكراھیة.. فبدیل السلام والأمن والاستقرار.. ھو العنف والتطرف والصراع.
- الإقـصاء والـتھمیش: فعـندمـا یـشعر الأفـراد بـالإقـصاء والـتھمیش مـن الـمجتمعات الـتي یـعیشون فـیھا، فـإنـھم قـد یـتجھون نـحو الـتطرف كـوسـیلة لـلتعبیر عـن اسـتیائـھم ثم ينتمون إلـى مجـموعـات تـقدم لـھم الـدعـم مـن أجـل استغلالھم وإدارتهم.
- الـدعـایـة السـلبیة الـمؤدلـجة:حيث تـساھـم الـدعـایـة الـمتطرفـة ذات الأبـعاد الإیـدلـوجـیة المنحـرفـة في تـشجیع الأفـراد على اعتناق وتبني أفكار ومواقف متطرفة تجاه جماعات أو مؤسسات معینة من أجل نشر الكراھیة بینھم.
- الجھـل ونـقص الـتعلیم: یـؤدي الجھـل ونـقص الـتعلیم إلـى اسـتغلال الأفـراد ورسم أدوارهم مـن قـبل الجـماعـات المتطرفة التي تستغل ھذه الفجوة لترویج أفكارھا وتشویه الحقائق وقلبها.
وعندما تـتفاعـل ھـذه الـعوامـل مـع بـعضھا فهي تخلق بـیئة تـشجع عـلى الـتطرف والانحراف وبـالـتالـي فـإن مـكافـحة الـتطرف تتطلب التصدي لھذه الأسباب ومعالجتھا بشكل شامل.
لـقد عـانـینا فـي الـعراق كـثیراً مـن آثـار الجـماعـات الـمتطرفـة كـداعـش الإرھـابـي وتـنظیم الـقاعـدة والـتنظیمات الـتكفیریـة الـتابـعة لـھما.. الـتي اسـتباحـت الحـرث والنسـل وعـملت عـلى اذكـاء الحـرب الـطائـفیة بـین أبـناء الـشعب الـواحـد.. ولـولا وعـي الـعراقـیین وحـرصـھم عـلى وحـدة بـلدھـم ولولا حـكمة مـرجـعیتھم الـدیـنیة الـمتمثلة بـالإمـام السـیستانـي (دام ظله الوارف) .. لـما اسـتطاعـوا مـواجـھة تـلك الجـماعـات الـمتطرفـة وطـردھـم مـن أرض الـعراق ومـلاحـقتھم فـي كل مكان.
لیس دفاعاً عن العراق فقط.. بل عن شعوب المنطقة والعالم أیضا.
إن الـعالـم بـحاجـة إلـى سـیاسـات دولـیة شـامـلة لـمكافـحة الـتطرف وهي تـتطلب جـھودًا مـتعددة المسـتویـات تـشمل الجوانب السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة والتعلیمیة والإعلامیة ، تتلخص على النحو الاتي:
١- تعزیز التعاون والتنسیق بین الدول والمنظمات الدولیة لمواجھة التطرف وتبادل المعلومات والخبرات.
- توفیر برامج تعلیمیة وتثقیفیة لتعزیز الوعي بالقیم السلمیة ومكافحة التطرف من خلال التعلیم والتدریب.
- تعزیز العدالة الاجتماعیة وضمان حقوق الإنسان والحریات الأساسیة للجمیع.
- خـلق فـرص الـعمل وتـعزیـز الـتنمیة الاقـتصادیـة فـي الـمجتمعات الـمعرضـة لـلتطرف للحـد مـن الاسـتیاء والإحباط.
- تشجیع الحوار الثقافي والدیني وتعزیز التسامح والتعایش السلمي بین الثقافات والمجتمعات المختلفة.
- الـتصدي لـمفاھـیم وسـلوكـیات الـتطرف عـلى وسـائـل الـتواصـل الاجـتماعـي عبر تـنظیم الـمحتوى الـرقـمي وتعزیز الوعي ومكافحة الدعایة السلبیة المروجة للكراهية والتمییز والعنصریة.
- تعزیز دور وسائل الإعلام في نقل رسائل سلمیة وتوعوية للجمهور ، بمخاطر التطرف وآليات التصدي له.
- ایـقاف اسـتمرار الـنزاعـات والـصراعـات المسـلحة فـي الـعالـم والـمنطقة.. وتـشجیع أسـالـیب الـحوار والاعـتراف بالآخر.
وجدير بـالـذكـر مـا یحـدث الـیوم مـن انـتھاكـات جسـیمة بـحق الـنساء والأطـفال مـن قـبل الـكیان الإسـرائـیلي الغاصب في فلسطین يأتي على الرغم من دعوات وقف اطلاق النار والذھاب إلى حوار شامل وعادل ويتجاهلها.
إن مـثل ھـذه الأسـالـیب الـوحشـیة الـصادرة عن الـكیان الإسـرائـیلي ، تـمثل صـورة واضـحة عـن مـفھوم الـتطرف الذي یختار القتل والاستھانة بالآخر وعدم الاعتراف بحقوق الآخرین رغم كل دعوات التھدئة والحوار.
إن سـیاسـات الـقتل والـتدمـیر والـتجویـع والـحصار باتت أبـرز مـلامـح الـتطرف.. وھـي ذاتـھا التي تـدفـع الآخـریـن الى سلوك التطرف ونتائجه وتداعياته.
السادة والسيدات الكرام ...
إن مـواجـھة الـتطرف أمر مركب یـحتاج أولاً إلـى دقـة الـتشخیص وثم شـجاعـة الـمعالـجة.. وإلـى تـغلیب الـنموذج الإیـجابـي الـذي یـمیز الـخیر مـن الشـر.. فحـینما تـكون ھـناك مـفاھـیم وسـلوكـیات مـتطرفـة لـدى جـماعـة تـنتمي بـالـظاھـر إلـى دیـن أو جـماعـة سـیاسـیة مـعینة.. عـلینا أن نـتفحص ونـنظر فـي ذات الـجھة إلـى مـن یـختلفون عنھم في التفسیر والتأویل وطبيعة المفاھیم الفكریة.. وأن لا نأخذ أحداً أو جهةً أو ديناً بجریمة وجريرة المنحرفین عنھم.
فـالـضالـون لا یـمثلون أصـحاب المنطق السليم والـفھم الـصحیح.. وعـزلـھم عن الصلحاء ، یـشجع عـلى بـیان الـحقائـق و إزالة الالتباس لـدى الناس البسطاء.
أسأل ﷲ تعالى أن ینعم على البشریة جمعاء بالأمن والسلام..
وأن یجنب شعوب العالم مفاھیم العنف والتطرف وآثار الكراھیة والعنصریة..
وأن یلھم الخیرین وأصحاب الفضیلة الصبر في الاستمرار على توعیة الناس ومكافحة أسباب التطرف..
والسلام علیكم ورحمة ﷲ وبركاته..