نص كلمة السيد الحكيم في المؤتمر 17 لمناهضة العنف ضد المرأة 1447هـ - 2025م
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين
أصحاب الفخامة والدولة والسيادة والمعالي والسعادة ..
السادة والسيدات ..
الإخوة والأخوات..
السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته..
يسعدنا أن نجدد اللقاء السنوي السابع عشر معكم في هذا المحفل النوعي ذي الأبعاد الإستراتيجية في دعم المجتمع الإنساني عموماً و شريحة المرأة على وجه الخصوص ،تعزيزاً لسنوات متواصلة من الدفاع عنها وعن حقوقها وعن قضاياها العادلة..
فحين يُعاد إحياء الأول من صفر من كل عام في "اليوم الإسلامي لمناهضة العنف ضد المرأة " ذكرى دخول سبايا آل الرسول إلى الشام .. فإننا لا نستذكر بذلك مأساة الماضي فحسب.. بل نجدد العهد لمواجهة مظالم الحاضر أيضاً .. تلك المظالم التي تُمارس بصمت تجاه المرأة والمجتمع..
إن اهتمامنا بالأسرة وعوامل تنشئتها وركائز بنائها والحفاظ عليها.. منطلقة من تعاليم ديننا الحنيف ووصاياه السامية.. فالإسلام أول من أسس لكرامة المرأة وحقوقها في مجتمع جاهلي كان يئد البنت الوليدة.. (وَإِذا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبِ قُتِلَتْ).
إن المرأة التي تمثل الأم والزوجة والأخت والبنت.. هي إحدى تلك الركائز الأساسية في بناء الأسرة والحفاظ عليها.. فمن لا ينصف المرأة في بيته ومؤسسته لا يمكن أن يبني وطنا كريما وعزيزاً بين الأمم.
لابد من العمل الجاد حكومة ومؤسسات ومنظمات وأفراداً .. ومواصلة الاهتمام والحث على مناقشة ومعالجة كل ما يتعلق بمستقبل الأسرة العراقية وركائزها الأساسية على الأصعدة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية كافة من حيث القوانين والتشريعات والإجراءات المطلوبة.. فالعنف لا يقاوم بالشعارات ، بل بتطوير منظومة المواجهة والمعالجة الفكرية والقانونية.
ويطيب لنا في هذا اليوم وبهذه المناسبة أن نطلق مبادرةً وطنيةً وإنسانيةً أصيلة وهي مبادرة "أسرتي وطني"، وهي دعوة لكل امرأةٍ عراقيةٍ، سواء كانت ربةَ بيتٍ أو عاملةً فاعلةً في ميادين الحياة المختلفة ، إلى استعادة قوتها الداخلية من خلال الرعاية والاهتمام المضاعف والدعم لعائلتها وأسرتها، عبر تعزيز ثقافة التماسك الأسري، وترسيخ الوعي بأهمية دور المرأة الحيوي في صناعة الأجيال، والحفاظ على الهوية والقيم الوطنية والأخلاقية، واعتبار نجاحها في هذا الدور الأسري هو الأساس الأهم في حياتها.
إنَّ هذه المبادرة تسعى إلى تقديم برامج توعوية وتدريبية متخصصة تساعد المرأة العراقية الكريمة على تحقيق التوازن بين واجباتها الأسرية ومسؤولياتها المهنية والاجتماعية، وتوفر لها الدعم النفسي والاجتماعي اللازم، لأداء أدوارها المتعددة بكل كفاءة واقتدار. كما تسعى المبادرة إلى فتح حوارات مجتمعية بنّاءة تعزز الروابط الأسرية وتقوي العلاقات الزوجية، وتؤكد على أهمية دور الأبوين ومكانتهما في بناء الأسرة العراقية المتماسكة، عبر توفير برامج تربوية وإرشادية مستدامة.
وهنا ندعو جميع الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الإعلامية والتربوية، إلى دعم هذه المبادرة والتكاتف من أجل نجاحها، فنحن قادرون بتآزرنا على بناء عراقٍ عزيزٍ، نابضٍ بالأمل والمحبة والسلام، يكون دور المرأة العراقية فيه نموذجًا للتوازن والحكمة والاعتزاز في جميع ميادين الحياة.
إن التركيز على اختيار تاريخ الأول من صفر في الدعوة إلى "مناهضة العنف ضد المرأة".. هو استحضار للتاريخ الدموي الظالم الذي مُورس بحق نساء آل بيت النبوة من قبل الطغيان اليزيدي .. وقد كان لخطب ومواقف السيدة زينب (عليها السلام) الدور الكبير وكانت وقفتها التاريخية المشهورة هي الركيزة الأساسية في مواجهة الاستبداد وتعريته .. وشاهداً عظيماً على أعنف صور الظلم والقهر والاضطهاد.
وكل ما عانته (سلام اللّٰه عليها) من ويلات ومصائب ، كانت تواجهه بإرادة صابرة وواعية..
كانت كلمتها العظيمة حينما ردت على من شمت بها من أرباب الطغيان بقولها:("ما رأيت إلا جميلا").. فكانت وما زالت وستبقى عنوانا للصبر والصمود والتضحية والمسؤولية.
إن أشكال العنف والاضطهاد كثيرة ومتنوعة في عصرنا الذي يتميز بتطوره التكنلوجي الكبير وتداخله الثقافي الواسع .. وعلى الرغم من الانفتاح الكبير الذي تشهده البشرية اليوم ، إلا أنها تعاني من استفحال لغة الطمع والجشع والتنمر المجتمعي والتحلل الأخلاقي.. والمرأة اليوم من أبرز ضحايا هذه العادات البعيدة عن روح الإنسانية والثوابت الدينية والأخلاقية.
إن العنف الأخطر الذي تتعرض له المرأة هو ان تُسلب هويتها وتُنزع عنها كرامة التميز الذي جعله اللّٰه جزءاً من كيانها وتكليفها.
إننا إذ نُدين العنف الذي يُمارس ضد المرأة بكل أشكاله.. فإننا نُدين أيضاً .. العنف الصامت الذي ينتزع فيه من المرأة عنوانها الحقيقي وكرامتها الطبيعية التي ميّزها اللّٰه بها عن الرجل.
حين تُجبر المرأة أن تكون نسخة مستنسخة من الرجل.. أو تُختزل إلى أداة للعرض أو التسويق.. فإننا نواجه عنفًا أخطر من الأذى الجسدي.. وهو عنفٌ يُقصيها عن ذاتها ويُرغمها على العيش خارج طبيعتها وهويتها.
المرأة كيان مكرّم له فرادته وتكامله وقد شاء اللّٰه لها أن تكون موطن الرحمة ومهد الطمأنينة ومصدر البناء..
فإذا حوّلناها إلى مشروع ترف أو أداة صراع أو سلعة قابلة للتداول الثقافي أو الإعلامي ، فقد أسأنا إلى المرأة وأضعنا المجتمع معها أيضا.
كرامة المرأة لا ثُصان بالشعارات بل بحفظها من الابتذال.. وحمايتها من الاستغلال.. وتمكينها في حدود هويتها لا على حسابها.
إن صون المرأة لا يعني حجبها عن العالم.. بل إعادتها إلى مركزه.. ولكن بالإرتكاز على هويتها لا على هوية غيرها.. فيجب أن تُشارك وهي واثقة بهويتها لا معتذرة عنها.. وأن تبني المجتمع وهي تشعر أن المجتمع يحترمها كما هي ، لا كما يريدها الآخرون.
المرأة العراقية دفعت الثمن الأكبر للصراعات والتجاذبات.. فهي من ربت أبناء الشهداء.. وواجهت قسوة النزوح.. وعانت من هشاشة الخدمات.. وتحملت أعباء الغلاء والبطالة والصعوبات.
فإنصاف المرأة يبدأ من المدرسة والتعليم والإدارة والمأسسة والقوانين والتعليمات والإجراءات .. لا من المؤتمرات والتجمعات والشعارات فحسب.
حين نرفع اليوم صوتنا ضد العنف الذي تتعرض له المرأة العراقية فإننا لا نقف في موقع التوصيف بل في موقع التغيير.. لأن العنف ضد المرأة ليس حادثًا عابرًا بل هو نتاج سياسات غائبة.. وقيم مضطربة.. وإرادات عاجزة عن إرساء نظام إنساني عادل يُنصف المرأة ، ولا يستغلها أو يُقصيها.
ويؤسفنا أن واقعنا السياسي والاجتماعي ما زال يُنتج صوراً متعددة من العنف.. من البيت إلى الشارع .. ومن الوظيفة إلى الشاشة.. فأين القانون الذي يحميها.. وأين الثقافة التي تُعلي شأنها.. وأين السياسة التي تعتبرها شريكة حقيقية.
ومن هنا فإننا نُطالب بالآتي:
أولاً/ إيجاد تشريعات تحمي المرأة من العنف الأسري والابتزاز الرقمي والتحرش في بيئة العمل..
ثانياً/ تخصيص موازنات حكومية لدعم المرأة المعنفة والمرأة المهمّشة والمرأة المعيلة.
ثالثاً/ إقامة وتنفيذ برامج ثقافية وتربوية تُعيد للمرأة صورتها المتوازنة كإنسانة مكرّمة..
رابعاً/ إعادة الاعتبار للمرأة في المناطق المحررة والمخيمات والمناطق العشوائية وعدم السماح بأن تُنتهك الحقوق وتتضاعف المعاناة بصمت هناك.
خامساً/ التمثيل الحقيقي في مراكز القرار كحق طبيعي .. ومن هنا، أدعو أخواتي وبناتي العراقيات الكريمات وأبناء الوطن جميعًا، إلى المشاركة الواسعة والفاعلة والواعية في الانتخابات القادمة، باعتبارها الطريق الأوحد والوسيلة الحضارية الصحيحة للتغيير السلمي وتبادل السلطة في بلدنا الحبيب.
فكونوا حاضرين، وصوتوا لمن ترون فيه القدرة والكفاءة والنزاهة، واختاروا القوائم القوية القادرة على التأثير والتغيير الحقيقي.
إنّ مشاركتكم الفاعلة هي رسالة قوية تؤكد حرصكم على عراق مستقل ومستقر، ومزدهر بالعدل والمساواة، خالٍ من العنف والتمييز. فلا تضيعوا فرصة صوتكم، وليكن حضوركم رسالةً واضحةً للجميع، بأنكم أصحاب القرار الحقيقي وصنّاع مستقبل العراق المشرق.
وفي هذه المناسبة الشاخصة .. نُعلن تضامننا مع الأطفال والنساء في غزة والضفة ولبنان واليمن وإيران وسوريا الذين يواجهون أشدّ أنواع العنف في ظل صمت عالمي مطبق ، وانحياز أخلاقي معيب أمام الاستهداف الإسرائيلي المستمر على شعوبنا العربية والإسلامية.
إن كرامة المرأة قيمة إنسانية لا تتجزأ .. فإذا صمتنا عن الدم في غزة فلا معنى لنداء الرحمة في بغداد..
وإن مسلسل القتل والتدمير والتجويع الذي يمارسه الكيان الإسرائيلي بحق النساء والأطفال الأبرياء في غزة الصابرة يعد من أبرز مصاديق العنف الذي يجب مناهضته من قبل الأحرار في العالم جميعاً.
أيها الإخوة والأخوات..
إننا اليوم أمام تحديات كبيرة ومخاطر جسيمة تتعلق بمستقبل العراق والمنطقة معا.. لاسيما في ظل استمرار منطق التصعيد ولغة السلاح والحرب.. وغياب الإرادة الدولية في مواجهة الاستهتار الإسرائيلي في المنطقة..
إن هذه التحديات والمخاطر تتطلب وعيا وبصيرة نافذة وحكمة في مواجهتها والعمل على معالجتها بصورة لا تقبل التهاون أو التأخير وفي هذا الموضوع أود الاشارة إلى الآتي:
أولا/ إن وحدة العراقيين والتفافهم حول مرجعيتهم الدينية العليا في النجف الأشرف متمثلة بالإمام السيستاني (دام ظله الوارف) والالتزام بتوصياتها وارشاداتها القيمة.. هو السبيل الأمثل لمواجهة شتى أنواع المخاطر والتحديات.. فقد استطاع العراقيون بمختلف مكوناتهم ، تجاوز الأزمات والمصاعب التي مرت بهم طيلة العقود الماضية..
لقد استطعنا بفضل اللّٰه تعالى مواجهة الإرهاب التكفيري وهزيمة داعش والجماعات الإرهابية.. ممن كانوا يستهدفون وحدة التراب العراقي..
وكذلك استطعنا مواجهة شتى أنواع الاستهداف الأمني الذي كان يسعى لإيقاع الفتن بين إخوة البيت العراقي الواحد ..
إن الوحدة والتكاتف والوعي المجتمعي والسياسي هو السبيل الوحيد لمواجهة كل ما يهدد وحدة العراقيين بلدا وشعبا وحكومة.. وعلينا اليوم أيضا أن نحرص على مواطن القوة تلك.. وأن نتسلح بها في المواجهة والمعالجة.
ثانيا/ إن لغة الإحباط والتهويل التي تمارس اليوم على أهلنا وشبابنا هي جزء من حرب نفسية يستخدمها العدو ضد بلدنا وشعبنا.. ويجب على النخبة المجتمعية والسياسية أن تواجه ذلك بقوة وحسم وإصرار.. وعلى الحكومة والمؤسسات المعنية أن لا تسمح لأصحاب تلك الاجندات المغرضة بالنيل من عزيمة شبابنا وأمن مجتمعنا..
هناك من يريد خلط الأوراق ونشر الكراهية والبغضاء والفتن بين مكونات الشعب.. فهل نسمح لهم بذلك ونعرض كل ما تم إنجازه الى الضياع ، وهل يقبل أحد بالرجوع إلى المربع الأول من الأزمات والمشاكل؟!
لابد من وقفة جادة وحاسمة ضد هكذا إرادات دخيلة وخبيثة..
ثالثا/ إن ما تشهده اليوم الشقيقة سوريا من اضطراب في الإدارة والأوضاع ، يتطلب منا حذرا مضاعفا لمواجهة الانعكاسات الأمنية والإنسانية المحتملة على بلدنا من جهة.. وما يترتب من تهديد حقيقي لأمن المنطقة والدول المجاورة واستقرارها من جهة أخرى.
لقد سبق وأكدنا بأن المنطقة مرتبطة بمصير مشترك.. وأن أمنها القومي لا يتجزأ.. ولا يمكن عزل الحريق في بلد دون آخر ، إذا استمر التهاون بذلك لا سمح الله..
إنني أدعو منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية أن يأخذوا دورهم التاريخي والمسؤول تجاه ما يحدث في منطقتنا من استهداف واعتداء وتهاون.. وأن تكون كلمة الوحدة الإسلامية والعربية هي المتصدرة في مشهد القرار في المنطقة.
حمى اللّٰه بلداننا العربية والإسلامية من كل مكروه ، وحفظ شعب العراق وأهله وشبابه من كل سوء ورحم شهداءنا الأبرار وقادة الانتصار والشهيدين الصدرين وشهيد المحراب وعزيز العراق ،، إنه سميع مجيب الدعاء
والسلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته..