السيد الحكيم: على كل من يتصدى لمسؤولية ما ان يخفض جناحه ويتواضع للناس
كان حديثنا في اللقاءات السابقة عن النظرية الاسلامية في القيادة والادارة، وقلنا ان عهد امير المؤمنين الامام علي (ع) لمالك الاشتر يمثل اختزال لهذه النظرية، كما وذكرنا اننا حينما نتحدث عن الإدارة والقيادة فنحن لا نتحدث عن المواقع القيادية الاولى عن الملوك والرؤساء والملوك والوزراء، وانما هذه النظرية تضع المواصفات والشروط والمعايير للنجاح في كل ادارة مهما توسعت مساحتها او تضيقت.
بدءا من الاسرة حينما يكون الشخص ربا لأسرة، مسؤولا عن عائلة عن عدد قليل من الناس او قد يكون مسؤول في شركة او في مصنع وكل من يتصدى ويتحمل المسؤولية باي مستوى كانت فتأتي هذه الضوابط كلما كانت المساحة اوسع، كلما كانت هذه المعايير اشد، وكلما كانت المساحة اضيق كلما كان التأثير بحجم تلك المساحات.
اذن نحن نتكلم عن نظرية لكل من يتصدى لأدارة او قيادة او الاهتمام بشأن من الشؤون، هذه ضوابط التصدي، هذه الشروط والمعايير لكل من يتحمل المسؤولية في الواقع الاجتماعي، وقد استعرض امير المؤمنين (ع) في هذا العهد الشريف كما ذكرنا في اللقاءات السابقة عدة محاور، كان المحور الاول في اهداف هذا العهد وثم انتقل في المحور الثاني ليتحدث عن المعايير الشخصية لمن يتصدى لهذه المواقع مواقع الخدمة وثم انتقل في المحور الثالث ليتحدث امير المؤمنين عن الرأي العام وطريقة التعامل مع الرأي العام لمن يتصدى لهذه المواقع، وفي المحور الرابع حدد الامير (ع) العلاقة بين الحاكم والرعية بين المسؤول ومن هو مسؤول عنهم اي كانت هذه المساحات هناك علاقة متبادلة والتزامات وحقوق وواجبات وقد تحدثنا عن هذه المحاور الأربعة ثم ينتقل الأمير في المحور الخامس ليتحدث عن بعض الاستحقاقات لموقع التصدي بعض العوارض والاخطار التي يقع فيها الانسان حينما يتصدى لمسؤولية عامة.
يبدأ امير المؤمنين بالاشارة الى هذا المحور بقوله (ع): (( وذا احدث لك ما انت فيه من سلطانك ابهة )) هذا الموقع موقع السلطنة ان كانت سلطنة بلد او سلطان بمعنى نائب او وزير في برلمان او حكومة سلطان مدير عام او في شركة اي كان، هذا الموقع الذي انت فيه والذي يعطيك الفرصة في ان تأمر احدا وتعطي التوجيهات لأخرين فهذا الموقع اذا اوجد لك شعور بالابهة والعظمة والكبرياء (( او مخيلة )) المخيلة من الخيال اي اوجد لك حالة من الخيلاء والعجب (( فانظر الى عظم ملك الله فوقك ))، لكي تسيطر على نفسك ولا تصاب بالعجب وبحالة الاستعلاء انظر الى الله سبحانه وتعالى ومكانته العظيمة فهو رب العالمين فمهما كنت وكانت قيمتك نسبة الى الله سبحانه وتعالى (( وقدرته منك على ما لا تقدرعليه من نفسك )) استذكر الاشياء التي لا تستطيع القيام بها والتي يستطيع الله فعلها وهو سبحانه وتعالى قادر عليها، فما هي قيمتك في محضر الله وما انت الا عبد من عبيد الله وهذا يؤدي الى ان تستصغر الموقع الذي انت فيه مهما كان هذا الموقع كبير ومهما كان مؤثرا (( فأن ذلك يطامن اليك من طماحك )) يطامن من التطمين والطمأنة يعني يخفض ويقلل ويهدأ من طماحك من حالة الطغيان والتمرد التي تشعر بها، وغالبا الانسان اذا تسنم مسؤولية معينة يصير بحالة أخرى غير التي عهدناه بها ، وحالة الطغيان كيف يمكن السيطرة عليها ؟ يسيطر عليها باستحضار ان الله فوقك وهو القادر على شيء ولا قيمة لهذا الموقع مهما عظم وكبر نسبة الى موقع الله ومكانته سبحانه وتعالى (( وتكف عنك من غربك )) الغرب حالة الغضب حالة الحدة، هذا الاستحضار لمكانة الله سبحانه وتعالى تجعلك تمسك نفسك عن حالة الغضب والاندفاع اللامبرر والانفعالات غير المنضبطة (( ويفيء اليك ما عزب عنك من عقلك )) يفيء يعني يرجع وعزب يعني غاب اي يرجع اليك ما غاب من عقلك، ايها المسؤول مالك تخليت عن عقلك بمجرد ان اصبحت مسؤولا وأخذت تتعامل بدون عقل ومنطق ومواقفك غير مبررة عقليا وفقدت توازنك ولم تستطع ان تأخذ القرار الصحيح وحينما تستحضر الله سبحانه وتعالى فوق رأسك وهو القادر والعليم بكل شيء وبيده الامور كلها يرفع من يشاء ويضع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء سوف يعود اليك عقلك وتبدأ بالتفكير وتسيطر على نفسك.
ماذا يراد بهذه العبارة على قصرها، ولكنها تحمل مضمونا كبيرا درسا مهما في الحياة لكل من يتصدى ولكل من يتحمل المسؤولية هناك عدة اضاءات لهذه العبارات الشريفة لأمير المؤمنين (ع) .
الإضاءة الأولى : اهمية الالتفات الى العوارض الناتجة من السلطة والنفوذ ، فكما على الانسان حينما يذهب الى بيئة معينة يعرف ما هي العوارض المترتبة والتي تواجهه في تلك البيئة ، والذي يريد الدخول في مسابقة يجب ان يعرف من هو الخصم وما هي طبيعته ونقاط قوته وضعفه، ماهي العوارض والاخطار التي يتعرض لها الانسان في كل قضية.
السلطة والنفوذ والتأثير ومواقع الخدمة العامة فيها عوارض وعلي (ع) يقول يا من تتصدى لموقع المسؤولية فانك امام عوارض واخطار عليك ان تنتبه لها، ماذا يقول علي (ع) في هذه العبارة (( واذا احدث لك ما انت فيه من سلطانك )) احدث يعني انه كان مفقود وتحقق ووجد حالة الحدوث هي الوجود بعد العدم، اذن هي عوارض غير موجودة لمن هو لم يتصد للمسؤولية لكن في اليوم الذي يتصدى فيه للمسؤولية سوف توجد هذه العوارض اذن هي عوارض السلطة ، عوارض الوجاهات والمواقع عليك ان تنتبه لها، الكبرياء والعظمة، العجب ، الاعتداد بالذات هذه عوارض لمن يتصدى لموقع المسؤولية إياك ان تقع في هذا الفخ وتفقد السيطرة على نفسك هذه رسالة أمير المؤمنين الأولى ، لاحضوا ماذا يقول علي (ع) في نهج البلاغة الحكمة 160 (( من ملك استأثر )) من ملك ووصل الى موقع القدرة والتصدي لشيء ما استأثر يصاب بحالة الاستبداد والكبر وبحالة الاستعلاء فهذه من العوارض الخطيرة لمن يتصدى للمسؤولية ، في نهج البلاغة الحكمة 216 (( من نال استطال )) يعني الذي يصل الى مسؤولية معينة استعلى ، هذا شأن من يصل الى هذه المواقع يبتلى بهذه العوارض وعليه ان يكون حذرا من ذلك، في سورة الاعراف الاية 146 ماذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه (( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق )) من يتكبر ويستعلي بغير وجه حق عقوبته الاصراف لآيات الله عن هذا الشخص.
ففي قضية بسيطة يرى المواطن الحل ولكن المسؤول لا يستطيع ان يهتدي الى هذا الحل بالرغم من بساطته لأنه يتكبر فلا يستطيع ان يرى الطريق والحل وبالتالي يفشل ويتلكأ ويتوقف وتزداد الخصومات والسخط الشعبي بوجهه لأنه لا يرى بعين الله فلا يرى الحق لأنه تكبر ولم يتجنب الوقوع في عوارض وأمراض الموقع ، في سورة الإسراء الآية 37 و38 (( ولا تمشي في الأرض مرحا انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا )) لا تشعر بالبهجة والسرور والفخفخة حينما تسير ، فانت لا تستطيع ان تشق الارض ، ومهما ترفع رأسك وتدفع برأسك الى الامام فأنك لا تبلغ طول الجبال ، وهنا المشي بتكبر هو كناية واشارة لحالة التبختر والتكبر التي يصاب بها الانسان حينما يصل الى مسؤولية معينة (( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها )) وفي سورة القصص الاية 39 (( واستكبر هو وجنوده في الارض بغير الحق )) فرعون لديه مكانة وجيوش حتى طلب من هامان ان يبني له صرحا حتى يبلغ الاسباب ليرى اله موسى (( وظنوا انه الينا لايرجعون )) المسؤول يتعامل بطريقة ظنا منه انه سوف يبقى في هذه المسؤولية الى الابد ، فياايها المسؤول لا تعتدي على الناس فيعتدى عليك فيما بعد، وهناك من المسؤولين بمجرد ان يخرج من المسؤولية يفاجىء بقائمة طويلة من الشكاوى والاعتراضات وتفتح الملفات وكان باستطاعته ان يفكر بهذا اليوم ويتعامل مع الناس بالطريقة الصحيحة (( وظنوا انه الينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده ونبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين )) في الكافي الجزء الثاني صفحة 309 عن ابي جعفر الباقر (ع) قال (( الكبر رداء الله والمتكبر ينازع الله ردائه )) من يتكبر ينازع الله في كبريائه وعظمته له الخزي في الدنيا والاخرة ، عن الامام الصادق (ع) (( انما الجبار الملعون من غمص الناس وجهل الحق ، حقرهم وتجبر عليهم )) الذي يحقر الناس ولا يرى قيمة للناس، واليوم القذافي يرسل بيانات مسجلة ولا ندري باي حفرة جالس ولا يستطيع ان يتخلى عن منطقه حيث يصف الناس والشعب بأوصاف لايمكن الحديث بها، فالمسؤول الذي يحقر الشعب والمواطنين ويستخف بعقولهم ويظن ان الناس تنسى ما يقول فاليوم يتحدث بكذا وغدا يتحدث بشيء اخر وتتذكر جيدا الوعود ، فمن يحقر ويستهين بالناس فهذا ملعون كما يقول الإمام الصادق (ع) ، عن ابي عبد الله الصادق (ع) قال (( ان يوسف (ع) لما قدم عليه الشيخ يعقوب دخله عز الملك فلم ينزل اليه )) اختلفت الروايات في انه كان على كرسي الحكم ورواية اخرى تقول انه كان صاعد على ظهر الفرس ، لكن بالنتيجة انه لم يقم من مكانه لأبيه ، طبعا يوسف نبي من الانبياء ومعصوم ولأنه معصوم لا يمكن ان يكون قد تكبر ولا يمكن ان يكون قصد الاهانة لأبيه في هذا الموقف ، قد يكون يوسف امام الناس وضمن البروتوكولات شعر الناس ان قيامه لشخص اخر غير مسؤول فيه انتقاص من هذا الموقع وكان يجب عليه ان يحافظ على هذا البروتوكول ويحافظ على هذا الموقع لكي يخدم من خلاله عباد الله ويفعل الموقع الذي هو به للخدمة ، فهو لم يقصد ان يتكبر ولم يقصد انه يقلل من قيمة ابيه ، ولكن كان الاولى على يوسف (ع) ان يقدم احترام الاب على مصلحة الحكم فيوسف ترك الاولى ولم يقع في معصية (( فهبط جبرئيل فقال يا يوسف ابسط راحتك فخرج منها نور ساطع فصار في جو السماء ، فقال يوسف يا جبرئيل ما هذا النور الذي خرج من راحتي فقال نزعت النبوة من عقبك عقوبة لما لم تنزل الى الشيخ يعقوب فلا يكون من عقبك نبي )) تعلقت ارادة الله فلأنك تركت الاولى في هذا الموقف الله انتزع النبوة من ذريتك .
لاحضوا كم هي مهمة هذه النزعة للأنسان حينما يكون في مواقع المسؤولية ، عن الامام الصادق (ع) (( من دخله العجب هلك )) هلاك الانسان حينما يصاب بالعجب ، نستجير بالله من ذلك ونسأل الله لكل من يتصدى لمسؤولية ان يمن عليه بخفض الجناح والترابية والتواضع لأنه لابد ان يعرف ان هذا الموقع مهما كبر ومهما التفت الناس حوله فلهذه الفرصة والموقع نهاية وهذه هي سنة الحياة، فقد يكون في هذا اليوم بطل قومي والامة العربية كلها تصفق له وفي اليوم الثاني الأمة العربية ترميه بالحجارة، والانبياء لم يستثنوا من هذه السنة فهناك حروب اشتركوا بها ولم يكتب لهم الانتصار فما بالك بغيرهم، لذلك علينا ونحن في مواقع المسؤولية لا نشعر ان هذه المسؤولية لا تدوم الى الابد ويجب على الانسان ان يكون خافض الجناح للناس.